فصل: تفسير الآيات (18- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 36):

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
لما ذكر تعالى أمر كتاب الفجار، عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق. عليون: جمع واحده عليّ، مشتق من العلو، وهو المبالغة، قاله يونس وابن جني. قال أبو الفتح: وسبيله أن يقال علية، كما قالوا للغرفة علية، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواو والنون. وقيل: هو وصف للملائكة، فلذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظه، كقوله: عشرين وثلاثين؛ والعرب إذا جمعت جمعاً، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون. وقال الزجاج: أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع، هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وعليون: الملائكة، أو المواضع العلية، أو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء الثقلين، أو علو في علو مضاعف، أقوال ثلاثة للزمخشري.
وقال أبو مسلم: {كتاب الأبرار}: كتابة أعمالهم، {لفي عليين}. ثم وصف عليين بأنه {كتاب مرقوم} فيه جميع أعمال الأبرار. وإذا كان مكاناً فاختلفوا في تعيينه اختلافاً مضطرباً رغبنا عن ذكره. وإعراب {لفي عليين}، و{كتاب مرقوم} كإعراب {لفي سجين}، و{كتاب مرقوم}. وقال ابن عطية: و{كتاب مرقوم} في هذه الآية خبر إن والظرف ملغى. انتهى. هذا كما قال في {لفي سجين}، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله. والمقربون هنا، قال ابن عباس وغيره: هم الملائكة أهل كل سماء، {ينظرون}، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إلى ما أعد لهم من الكرامات. وقال مقاتل: إلى أهل النار. وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض. وقرأ الجمهور: {تعرِف} بتاء الخطاب، للرسول صلى الله عليه وسلم، أو للناظر. {نضرة النعيم}، نصباً. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب والزعفراني: تعرف مبنياً للمفعول، نضرة رفعاً؛ وزيد بن عليّ: كذلك، إلا أنه قرأ: يعرف بالياء، إذ تأنيث نضرة مجازي؛ والنضرة تقدّم شرحها في قوله: {نضرة وسروراً} {مختوم}، الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمماً وتنظفاً بالرائحة المسكية، كما فسره ما بعده. وقيل: تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. وقرأ الجمهور: {ختامه}: أي خلطه ومزاجه، قاله عبد الله وعلقمة. وقال ابن عباس وابن جبير والحسن: معناه خاتمته، أي يجد الرائحة عند خاتمة الشراب، رائحة المسك. وقال أبو عليّ: أي إبزاره المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم. وقيل: يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك. وفي الصحاح: الختام: الطين الذي يختم به، وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدل الطين، وقال الشاعر:
كأن مشعشعاً من خمر بصرى ** نمته البحث مشدود الختام

وقرأ عليّ والنخعي والضحاك وزيد بن عليّ: وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي: خاتمه، بعد الخاء ألف وفتح التاء، وهذه بينة المعنى، إنه يراد بها الطبع على الرحيق.
وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: كسر التاء، أي آخره مثل قوله: {وخاتم النبيين} وفيه حذف، أي خاتم رائحته المسك؛ أو خاتمه الذي يختم به ويقطع. {من تسنيم}، قال عبد الله وابن عباس: هو أشرف شراب الجنة، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة. وقال الزمخشري: {تسنيم}: علم لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه. و{عيناً} نصب على المدح. وقال الزجاج: على الحال. انتهى. وقال الأخفش: يسقون عيناً، {يشرب بها}: أي يشربها أو منها، أو ضمن يشرب معنى يروى بها أقوال. {المقرّبون}، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح: يشربها المقربون صرفاً ويمزج للأبرار. ومذهب الجمهور: الأبرار هم أصحاب اليمين، وأن المقرّبين هم السابقون. وقال قوم: الأبرار والمقرّبون في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكل من نعم في الجنة.
وروي أن علياً وجمعاً معه من المؤمنين مروا بجمع من كفار قريش، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً، فنزلت: {إن الذين أجرموا}، قبل أن يصل عليّ رضي الله تعالى عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكفار مكة هؤلاء قيل هم: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل؛ والمؤمنون: عمار، وصهيب، وخباب، وبلال، وغيرهم من فقراء المؤمنين. والظاهر أن الضمير في {مروا} عائد على {الذين أجرموا}، إذ في ذلك تناسق الضمائر لواحد. وقيل: للمؤمنين، أي وإذا مرّ المؤمنون بالكافرين يتغامز الكافرون، أي يشيرون بأعينهم. و{فكهين}: أي متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم. وقرأ الجمهور: فاكهين بالألف، أي أصحاب فاكهة ومزح وسرور باستخفافهم بأهل الإيمان؛ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص: بغير ألف، والضمير المرفوع في {رأوهم} عائد على المجرمين، أي إذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال، وهم محقون في نسبتهم إليه.
{وما أرسلوا} على الكفار، {حافظين}. وفي الإشارة إليهم بأنهم ضالون إثارة للكلام بينهم. وكان في الآية بعض موادعة، أي إن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار، وهذا على القول بأن هذا منسوخ بآية السيف. وقال الزمخشري: وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وجدهم في ذلك. ولما تقدّم ذكر يوم القيامة قيل: {فاليوم الذين آمنوا}، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حال من الضمير في يضحكون، أي يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم. وقال كعب لأهل الجنة: كوى ينظرون منها إلى أهل النار. وقيل: ستر شفاف بينهم يرون منه حالهم. {هل ثوب}: أي هل جوزي؟ يقال: ثوبه وأثابه إذا جازاه، ومنه قول الشاعر:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ** وحسبك أن يثني عليك وتحمد

وهو استفهام بمعنى التقرير للمؤمنين، أي هل جوزوا بها؟ وقيل: {هل ثوب} متعلق بينظرون، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى. وقرأ الجمهور: {هل ثوب} بإظهار لام هل؛ والنحويان وحمزة وابن محيصن: بإدغامها في الثاء؛ وفي قوله: {ما كانوا} حذف تقديره جزاء أو عقاب: {ما كانوا يفعلون}.

.سورة الانشقاق:

.تفسير الآيات (1- 25):

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
قال ابن خالويه: {إذا السماء انشقت} بكسر التاء، عبيد عن أبي عمرو. وقال ابن عطية، وقرأ أبو عمرو: {انشقت}، يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر، وكذلك في أخواتها. قال أبو حاتم: سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات، وهي لغة. انتهى. وذلك أن الفواصل قد تجري مجرى القوافي. فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي، تكسر في الفواصل؛ ومثال كسرها في القوافي قول كثير عزة:
وما أنا بالداعي لعزة بالردى ** ولا شامت أن نعل عزة زلت

وكذلك باقي القصيدة. وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف، كقوله تعالى: {الظنونا} و{الرسولا} في سورة الأحزاب. وحمل الوصف على حالة الوقف أيضاً موجود في الفواصل. {وأذنت}: أي استمعت وسمعت أمره ونهيه، وفي الحديث: «ما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن» وقال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وقال قعنب:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحاً ** وما هم أذنوا من صالح دفنوا

وقال الحجاف بن حكيم:
أذنت لكم لما سمعت هريركم

وأذنها: انقيادها الله تعالى حين أراد انشقاقها، فعل المطيع إذا ورد عليه أمر المطاع أنصت وانقاد، كقوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين} {وحقت}، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: وحق لها أن تسمع. وقال الضحاك: أطاعت وحق لها أن تطيع. وقال قتادة: وحق لها أن تفعل ذلك، وهذا الفعل مبني للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، أي وحق الله تعالى عليها الاستماع. ويقال: فلان محقوق بكذا وحقيق بكذا، والمعنى: أنه لم يكن في جرم السماء ما يمنع من تأثير القدرة في انشقاقه وتفريق أجزائه وإعدامه. قيل: ويحتمل أن يريد: وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى. وقال الزمخشري: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع، ومعناه: الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك، انتهى. وفي قوله القادر الذات دسيسة الاعتزال، وما أولع هذا الرجل بمذهب الاعتزال، يدسه متى أمكنه في كل ما يتكلم به.
{وإذا الأرض مدت}، قال مجاهد: سويت. وقال الضحاك: بسطت باندكاك جبالها، ومنه الحديث: «تمد الأرض مد الأديم العكاظي حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه»، وذلك أن الأديم إذا مَّد زال ما فيه ما تئن وانبسط، فتصير الأرض إذ ذاك كما قال تعالى: {فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} {وألقت ما فيها وتخلت}، قال ابن جبير والجمهور: ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها.
وقال الزجاج: ومن الكنوز، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى. {وتخلت}: أي عن ما كان فيها، لم تتمسك منهم بشيء. وجاء تخلت: أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو. كما تقول: تكرم الكريم: بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها. وجواب إذا محذوف، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار، أو ما يدل عليه: {إنك كادح}، أي لاقى كل إنسان كدحه. وقال الأخفش والمبرد: هو ملاقيه، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه. وقيل: {يا أيها الإنسان}، على حذف الفاء تقديره: في أيها الإنسان. وقيل: {وأذنت} على زيادة الواو؛ وعن الأخفش: {إذا السماء} مبتدأ، خبره {وإذا الأرض} على زيادة الواو، والعامل فيها على قول الأكثرين: الجواب إما المحذوف الذي قدروه، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب. قال ابن عطية: وقال بعض النحويين: العامل انشقت، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن إذا مضافة إلى انشقت، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء، انتهى. وهذا القول نحن نختاره، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه، والتقدير: وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض. وقيل: لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به، فليست شرطاً.
{وأذنت لربها}: أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها. والإنسان: يراد به الجنس، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه. وقال مقاتل: المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث، فقال أبو سلمة: والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة. فقال الأسود فأين: الأرض والسماء وما جال الناس؟ انتهى. وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود، وهي تعم الجنس. وقيل: المراد أبيّ بن خلف، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر. وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل، وهو غير ضائع عنده.
{إنك كادح}: أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك، أي طول حياتك إلى لقاء ربك، وهو أجل موتك، {فملاقيه}: أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب. قال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه، ولا يتعين ما قاله، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات. وقال الجمهور: الضمير في ملاقيه عائد على ربك، أي فملاقي جزائه، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل. {حساباً يسيراً} قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه.
وقال الحسن: يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة. وفي الحديث: «من حوسب عذب»، فقالت عائشة: ألم يقل الله تعالى {فسوف يحاسب حساباً يسيراً}؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما ذلك العرض، وأما من نوقش الحساب فيهلك». {وينقلب إلى أهله}: أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين، أو إلى عشيرته المؤمنين، فيخبرهم بخلاصه وسلامته، أو إلى المؤمنين، إذ هم كلهم أهل إيمان. وقرأ زيد بن علي: ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول.
{وراء ظهره}: روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره، فيأخذ كتابه بها. قال ابن عطية: وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم، يعني عصاة المؤمنين، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار. وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد على هذا القول، انتهى. والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار. {يدعو ثبوراً}: يقول: واثبوراه، والثبور: الهلاك، وهو جامع لأنواع المكاره. وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة: {ويصلى} بفتح الياء مبنياً للفاعل؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج: بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع، وأبان عن عاصم، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو: بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف.
{إنه كان في أهله مسروراً}: أي فرحاً بطراً مترفاً لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته لقوله تعالى: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} بخلاف المؤمن، فإنه حزين مكتئب يتفكر في الآخرة. {إنه ظن أن لن يحور}: أي أن لن يرجع إلى الله، وهذا تكذيب بالبعث. {بلى}: إيجاب بعد النفي، أي بلى ليحورن. {إن ربه كان به بصيراً}: أي لا تخفي عليه أفعاله، فلابد من حوره ومجازاته.
{فلا أقسم بالشفق}: أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها، والشفق تقدم شرحه. وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة: هو البياض الذي يتلوه الحمرة. وروى أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رجع عن قوله هذا إلى قول الجمهور. وقال مجاهد والضحاك وابن أبي نجيح: إن الشفق هنا كأنه لما عطف عليه الليل قال ذلك. قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف، انتهى. وعن مجاهد: هو الشمس؛ وعن عكرمة: ما بقي من النهار. {وما وسق}: ما ضم من الحيوان وغيره، إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل. وقال ابن عباس: {وما وسق}: أي ما غطى عليه من الظلمة.
وقال مجاهد: وما ضم من خير وشر. وقال ابن جبير: وما ساق وحمل. وقال ابن بحر: وما عمل فيه، ومنه قول الشاعر:
فيوماً ترانا صالحين وتارة ** تقوم بنا كالواسق المتلبب

وقال ابن الفضل: لف كل أحد إلى الله، أي سكن الخلق إليه ورجع كل إلى ما رآه لقوله: {لتسكنوا فيه}. وقرأ عمر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير: بتاء الخطاب وفتح الباء. فقيل: خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي حالاً بعد حال من معالجة الكفار. وقال ابن عباس: سماء بعد سماء في الإسراء. وقيل: عدة بالنصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك. وقال الزمخشري: وقرئ {لتركبن} على خطاب الإنسان في {يا أيها الإنسان}. وقال ابن مسعود المعنى: لتركبن السماء في أهوال القيامة حالاً بعد حال، تكون كالمهل وكالدهان وتنفطر وتنشق، فالتاء للتأنيث، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها، والضمير الفاعل عائد على السماء. وقرأ عمر وابن عباس أيضاً: بالياء من أسفل وفتح الباء على ذكر الغائب. قال ابن عباس: يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقيل: الضمير الغائب يعود على القمر، لأنه يتغير أحوالاً من إسرار واستهلال وإبدار. وقال الزمخشري: ليركبن الإنسان. وقرأ عمر وابن عباس أيضاً وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة: بتاء الخطاب وضم الباء، أي لتركبن أيها الإنسان. وقال الزمخشري: ولتركبن بالضم على خطاب الجنس، لأن النداء للجنس، فالمعنى: لتركبن الشدائد: الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم، كما تقول: طبقة بعد طبقة. قال نحوه عكرمة. وقيل: عن تجئ بمعنى بعد. وقيل: المعنى لتركبن هذه الأحوال أمة بعد أمة. ومنه قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ** ض وضاءت بنورك الأفق

تنقل من صالب إلى رحم ** إذا مضى عالم بدا طبق

وقال مكحول وأبو عبيدة: المعنى لتركبن سنن من قبلكم. وقال ابن زيد: المعنى لتركبن الآخرة بعد الأولى. وقرأ عمر أيضاً: ليركبن بياء الغيبة وضم الباء. قيل: أراد به الكفار لا بيان توبيخهم بعده، أي يركبون حالاً بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود وابن عباس: لتركبن بكسر التاء، وهي لغة تميم. قيل: والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقرئ بالتاء وكسر الباء على خطاب النفس، وطبق الشيء مطابقة لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة. ويجوز أن تكون اسم جنس، واحدة طبقة، وهي المرتبة من قولهم: هم على طبقات. و{عن طبق} في موضع الصفة لقوله: {طبقاً}، أو في موضع الحال من الضمير في {لتركبن}.
وعن مكحول، كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه.
{فما لهم لا يؤمنون}: تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل. {لا يسجدون}: لا يتواضعون ويخضعون، قاله قتادة. وقال عكرمة: لا يباشرون بجباههم المصلى. وقال محمد بن كعب: لا يصلون. وقرأ الجمهور: {يكذبون} مشدداً؛ والضحاك وابن أبي عبلة: مخففاً وبفتح الياء. {بما يوعون}: بما يجمعون من الكفر والتكذيب، كأنهم يجعلونه في أوعية وعيت العلم وأوعيت المتاع، قال نحوه ابن زيد. وقال ابن عباس: بما تضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقال مجاهد: بما يكتمون من أفعالهم. وقرأ أبو رجاء: بما يعون، من وعى يعي. {إلا الذين آمنوا}: أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون. {غير ممنون}: غير مقطوع. وقال ابن عباس: {ممنون}: معدد عليهم، محسوب منغص بالمن، وتقدم الكلام على ذلك في فصلت، والله الموفق.